الأحد، 17 نوفمبر 2019

الوفاء

آيات عن الوفاء بالعهد

♦ ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40].




♦ ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].



♦ ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 76، 77].



♦ ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [المائدة: 7].



♦ ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152].



♦ ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20].



♦ ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].



♦ ﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 95].



♦ ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الحديد: 8].



نماذج من الوفاء بالعهد



ذكر الواقديُّ تفصيلاً في حصار مدينة بعلبك، وأن قِسمًا من جيشها بقيادة حاكمها هربيس قد حوصروا في قرية محصَّنة ليس فيها زاد، وأبو عبيدة محاصر لبعلبك، ومن قبله سعيد بن زيد محاصر لهربيس، فأراد هربيس أن يحتال ليوقع صلحًا مع المسلمين، فقال للترجمان: انزِلْ إلى هؤلاء العرب وخُذْ لنا منهم أمانًا، واستوثِقْ لنا منهم حتى أنزل إليهم، فلعلنا نُجري بيننا صلحًا، ولعلي أمكر بهم حتى أرجع إلى المدينة، فنزل الترجمان وقال لسعيد بن زيد: جئت لآخذَ منك أمانًا لبطريقنا ألا تنقضَ لنا عهدًا، فقال سعيد: ليس من أخلاقِ الأمراء ومَن يقود الجيوش أن يغدِرَ بعد الأمان، ولسنا - بحمدِ الله - ممن ينقض عهدًا، وقد أعطيت صاحبَك أمانًا ولمن معه ممن ألقى السلاح وخرَج يطلب الأمان مستسلمًا، فرجع الترجمان إلى سيِّده، وأعلَمه بجواب سعيد، وقال له: اخرج، وإياكم والغدرَ؛ فإنه يُهلك صاحبه، وإن هؤلاء العرب لا يخُونون أمانهم وعهدهم، ثم نقله إلى أبي عبيدة، وطلب أبو عبيدة مبلغًا معينًا لقاء الصلح، فرضي هربيس به، وكتب أبو عبيدة نص الأمان وفيه: "ولنا عليكم خراجُ أرضكم في العام الآتي، وأداء الجزية في كل عام، وأنتم بعد ذلك لا تحملون علينا سلاحًا، ولا تكاتبون ملِكًا، ولا تحدِثون حَدَثًا ولا كنيسة، وترون النصحَ للمسلمين"، وقال هربيس: ولنا شرط، فقال أبو عبيدة: وما شرطك؟ قال: لا يدخل إلينا من أصحابك أحدٌ، وتنزل صاحبَك الذي تستخلفه علينا خارج المدينة بأصحابه، ويكون له الخراجُ والجِزية، وتدعني أنا من داخل المدينة للإصلاح بين الناس، والنظر في أحوالهم، ونحن نُخرِج إلى من تخلِّفه علينا من أصحابك سوقًا يكون فيه من جميع ما في مدينتنا، ولا يدخلون إلينا مخافة أن يُغلظوا بكلامهم على كبرائنا، ويفسُد الأمر بيننا وبينكم، ويكون سببًا للغدر ونقض الغدر.



قال أبو عبيدة: فإذا صالحناكم نجاهد عدوكم؛ لأنكم تصيرون في ذمَّتنا، ويكون الرجل الذي نخلفه عليكم مثل الواسطة والسَّفير بيننا وبينكم، قال هربيس: يكون خارج المدينة، ويفعل ما يشاء أن يفعلَه من المحاماة، فقال أبو عبيدة: لكم ذلك، ثم عرَض هربيس الاتفاقَ على أهل بعلبك فأبَوا وقالوا: إنا لا نُطيق هذا المال، فقال هربيس: أتحمَّل أنا الربع، فوافقوا وتم الصلح، واستعمل أبو عبيدة رافعًا السهميَّ على المدينة مع حامية من الجنود، ورجَع أبو عبيدة إلى حِمص بعد أن أوصى رافعًا بالإحسان إليهم، وعدمِ دخول مدينتهم، ثم إن هذه الحاميةَ مع رافع كانوا يشنون الغارات على الروم والساحل ويعودون بالغنائم، ثم يبيعونها من أهل بعلبك بمبالغ زهيدة، ففرح أهل بعلبك، وجنَوا من ورائهم أرباحًا كثيرًا، قال: وعرفوا أننا قومٌ ليس فينا كذبٌ ولا خيانة، ولا نريد ظلمَ أحد، فطابت نفوسهم، ثم إن هربيس حسَد أهل البلد على الأرباح، فجمَع التجار وأهل السوق، وطلَب منهم أن يعوِّضوه المال الذي دفعه للصلح، وعدَّ نفسه منقذًا للبلد، وطلب منهم أن يعطوه عشر الأرباح، فرَضُوا، وعيَّن عليهم عشَّارًا ليضبط الأرباح، فاجتمع له في أربعين يومًا مال عظيم، فطمِع وجمعهم، وطلب الرُّبع فضجُّوا، ووقعت بينه وبينهم حرب، فقتَلوه وقتلوا أتباعه، وضجَّت البلدة، فسمع جند المسلمين وهم خارج الأسوار الضجيج، فقالوا لرافعٍ: أما تسمع أصوات هؤلاء القوم؟ قال: سمعتُ، وما عسى أن أصنع بهم، لا يحل لنا الدخولُ إليهم، وبهذا جرى الشرط بيننا وبينهم، ونحن أحقُّ مَن أوفى بعهد الله، فإن خرَجوا إلينا وأعلَمونا نظَرْنا في أمورِهم، ثم خرج أهلُ بعلبك يُهرَعون إليه، واستنجدوا به، وأعلَموه بقصتهم، فقال: إنا لا نمكِّنُه من ذلك، فقالوا: إنا قتلناه، فقال رافع: فما الذي تريدونه؟ فقالوا: نريد أن تدخلوا إلى المدينة؛ فإنا قد أطلقنا لكم الدخولَ إليها.



فقال رافع: لا أقدرُ حتى أستأذن أبا عبيدة، فإن أذِن لي دخلتُ، ثم كتب رافع إلى أبي عبيدة بذلك، فأجابه: إن أذِنوا لكم فادخُلوا، فدخلوها وأصلحوا شأن الناس.



فهذا مثالٌ للوفاء بالعهد، حدَث في صدر الإسلام، والمثل الثاني حصل في العصر الأوسط في زمن صلاح الدين الأيوبي؛ فإنه لما حصر القدس، وضيَّق عليها، وعلم من فيها أنهم لن يستطيعوا المقاومة، طلبوا الصلح والأمان، فأمَّنهم صلاحُ الدين، وفرض عليهم لقاء ذلك مبلغًا قدره: عشرة دنانير عن الرجل، وخمسة عن المرأة، وديناران عن كل صغير، وأمهلهم أربعين يومًا، ثم خرَج الأغنياء بأموالهم، ولم يؤدُّوا عن الفقراء، بل ترَكوهم لعفو صلاح الدين، وخرج البطرك بالعربات المحمَّلة بالذهب والنفائس، ولم يدفع إلا عن نفسه وحاشيته، ولم يحفل بفقراء الصليبيين، وقد رأى المسلمون هذه العرباتِ وقلةَ ما جمعوه بأيديهم من الفتح، فمنَعهم منها العهد والالتزام به، ولو كان غيرهم لهاجموها وأخذوها، لكنه عهد المسلمين وأمانهم الذي اشتهروا به، ولو غدروا لما كانت لهم الفتوحات، ولما أمنهم الناسُ، فكان الوفاء بالعهد ميزةً كبرى، وخَصيصة مُثلى من الخصائص التي اشتهر بها المسلمون.



وهكذا حرسهم المسلمون حتى بلغوا مأمنَهم في مدينة صور التي اختاروها، وبالمقابل فإنهم في هجمتهم الصليبية الأولى دخلوا مدنًا كثيرة بالأمان، ثم ذبحوا أهلها، وكانوا مثلهم كمثل إخوانهم نصارى الأندلس، ومثل المغول أيضًا في نقض العهود وعدم الالتزام بها.





الوفاء بالعهد من القرآن والسنة



قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولًا ﴾ [الإسراء: 34].

قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20].



عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقض قوم العهد إلا سلَّط عليهم عدوَّهم))[1].



عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن حسن العهد من الإيمان))[2].



وعن أنس بن مالك قال: "ما خطبنا نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"[3].



وفائه صلى الله عليه وسلم بالعهد:

حدثنا حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيلٌ، قال فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرِفا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))[4].



قصة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمًّى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يركبها، يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة، فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرَضِي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرَضِي بك، وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر، حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يتلمس مركبًا، يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها، وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلى بشيء، قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدًا[5].




[1] صحيح الجامع.
[2] صحيح الجامع.
[3] صحيح الترغيب والترهيب.
[4] البخاري.
[5] البخاري.
..........................

الوفاء بالعهد والميثاق






الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
...................

الوفاء بالعهود والمواثيق من صفات المؤمنين، ونقضها من أعمال الكفار والمنافقين؛ ففي الثناء على وفاء المؤمنين ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8] وفي ذم الكفار من شتى الأمم بنقضهم العهد ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 102] وفي مقام آخر ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25].



والعهد عهدان: عهد مع الله تعالى، وعهد مع خلقه، فعهد الله تعالى عبادته وحده لا شريك له، وإقامة دينه. ومن أدى ذلك وفى -ولا بد- بعهد الخلق؛ لأن عهد الخلق له تعلق بحق الله تعالى من جهة أنه حقوق للعباد بعضهم على بعض أوجبها الله تعالى، أو عهد فرضه الإنسان على نفسه فوجب عليه الوفاء به طاعة لله تعالى الذي أمر بإيفاء العهود والمواثيق، وحرم نقضها.



وعهد الله تعالى وميثاقه هو الأصل، وعهود الخلق ومواثيقهم فرع عنه، والخلق قد شهدوا على أنفسهم بالوفاء بعهده سبحانه في أول خلقهم ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [الأعراف: 172]. وعهد الله تعالى على عباده هو دينه، وإقامته وفاء به، ومن صفات أهل البر والتقوى التي ذكرها الله تعالى ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ [البقرة: 177] وفي آية أخرى ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76].



والوفاء بالعهد من وصايا الله تعالى لعباده، وهي أعظم الوصايا وأنفعها ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152] وأهل الوفاء هم أهل العقول الراجحة؛ لأنهم عملوا بما ينفعهم من الوفاء بالعهود، وجانبوا ما يضرهم من نقضها ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 19- 20] والله تعالى مطلع على الموفين بعهودهم وعلى الناكثين لها ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91] ويسألون يوم القيامة عنها ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34].



وإذا وفى العباد بعهد الله تعالى فالله سبحانه أكثر وفاء منهم، وأجزل عطاء وجزاء على وفائهم، فكان عهد الوافين معه سبحانه أربح عهد، وأعظمه فلاحا وفوزا في الدنيا وفي الآخرة ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]. وناكث عهده لا يضر إلا نفسه ﴿ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 10].



وبيع العهد لمصلحة دنيوية من أعظم الإثم، وأشد الغبن؛ لأنه استبدال شيء مما يفنى بما يبقى، سواء كان بيع الدين كله، أو بيع حكم منه بإسقاط واجب، أو إباحة محرم، أو تسويغ منكر. أو كان عهدا قطعه لأحد من البشر ثم خانه فنقضه لمصلحة أخرى. ومن وفى بعهد الله تعالى وفى للخلق عهودهم، ومن خان ربه سبحانه في دينه كان لخلقه أشد خيانة في عهودهم ﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 95]، وعقوبة ذلك شديدة جدا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77].



وأهل الإسلام يجب أن يكونوا أهل بر وفاء؛ لأن الله تعالى أمرهم بذلك، ووصف أسلافهم بالوفاء ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 23]. قدوتهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي تواترت أقواله في الوفاء بالعهود وقال: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ» أي: لا أنقضه وقال صلى الله عليه وسلم «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» روهما أحمد. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» رواه أبو داود.



وأشهر الأمم نقضا للعهد كفار أهل الكتاب؛ فإن الله تعالى أنعم عليهم بالتفضيل، وأمرهم بإقامة الدين، ووعدهم بالتمكين ﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40] ولكنهم نقضوا عهودهم، وبدلوا دينهم، وحرفوا كتابهم، وتركوا شريعتهم، وكان نقض العهود دأبهم وديدنهم حتى صار عدم الوفاء من سجاياهم ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100].

وفي السيرة النبوية نقضت طوائف اليهود كلها عهودهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونقض النصارى عهودهم مع المسلمين في الحرب وفي السلم. وفي عقوبة الله تعالى لأهل الكتاب على نقضهم عهودهم يقول سبحانه وتعالى ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13].



وإن قارئ القرآن ليتعجب من هذه الآية التي ربطت بين نقض الميثاق وبين قسوة القلب، حين يرى ذلك ماثلا أمامه في الحياة المعاصرة؛ وذلك أن المنظمات الدولية ومواثيقها المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق الأسرى وحقوق الأطفال وحقوق المشردين صاغها الأقوياء من أهل الكتاب، وأسسوها على مقتضى فكرهم العلماني الذي لا يجعل لله تعالى فيها حقا. ثم لما فرضوها على جميع البشر لم يعدلوا في تطبيقها، فكانت المجازر البشرية المهولة، وكان التعذيب الفظيع للمسلمين في أقطار شتى، وكان التهجير بالملايين على مرأى ومسمع ممن صاغوا هذه القوانين، وقرروا تلك الحقوق، ولم يحرك فيهم ساكنا من شدة قسوة قلوبهم. ومشاهد ذلك واضحة للعيان في بلاد المسلمين المستباحة وما فيها من أهوال وآلام؛ وذلك لأن القوانين التي خطتها أيديهم، وفرضتها على الدول قوتهم لا قيمة لها عندهم إذا لم تحقق مصالحهم، ويكون نقض العهود والمواثيق مقدما على الوفاء في سبيل مصالحهم؛ ولذا وقفوا مع الخونة المجرمين الذين ينتهكون قوانينهم الدولية بقتل الناس وسحلهم وتعذيبهم وحرقهم وتهجيرهم، مما تأباه القوانين الدولية التي لم يلتزموا بإقامتها إلا وفق المصالح فقط ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...



الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة:281].



أيها المسلمون:

المنافقون من أكثر الناس نقضا للعهود، وغشا للمؤمنين، سواء كان نفاقهم سبئيا باطنيا أم كان نفاقا شهوانيا سلوليا، وفي غزوة الأحزاب نقضوا عهدهم وقالوا ﴿ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ﴾ [الأحزاب: 13] فأظهر الله تعالى حقيقة نقضهم للعهد بقوله سبحانه ﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ﴾ [الأحزاب: 15]. وفي فاضحة المنافقين (براءة) قال الله سبحانه ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].

ولأجل نقضهم للعهود كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحذر منهم، ولم يول منافقا ولاية كبيرة ولا صغيرة، رغم أن بعضهم كانوا رؤوسا في قومهم.

وقد رأينا في زمننا هذا خيانة المنافقين لدينهم وأمتهم، واصطفافهم مع الأعداء لمحو الإسلام. ورأينا النفاق الصفوي الباطني ينقض عهوده مع أهل السنة في العراق، فيعيدهم لإسكاتهم ثم يغدر بهم، ورأينا النفاق النصيري يسلم بلاد الشام للصفويين والصليبيين ليدمروها ويبيدو أهلها، ورأينا النفاق الحوثي الباطني يطلب الهدنة تلو الهدنة فإذا أعطيت له خرقها ونقض عهده، واستباح البلاد والدماء والأعراض والأموال، وليس له غاية إلا تسليم البلاد للعمائم الصفوية ليعيثوا فيها فسادا، ويطوقوا مكة والمدينة لتحقيق نبوءات خرافية حشا بها أئمة الكذب كتبهم؛ لتسخير أتباعهم من الرعاع جندا في مشروع إعادة أمجاد مملكة الفرس الكسروية، التي لن تعود بإذن الله تعالى، كفى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين شرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين.

وصلوا وسلموا على نبيكم...

........................................................

بيع الوفاء


 تعريف بيع الوفاء:

بيع الوفاء مركب إضافي من كلمتين: البيع، والوفاء، ولا بد من تعريف كل كلمة على حدة، ثم يتم تعريفه مركبًا منهما.



فالبيع في اللغة ضد الشراء، والبيع: الشراء أيضًا، وهو من الأضداد[1]، قال ابن فارس: "الباء والياء والعين أصل واحد، وهو بيع الشيء، وربما سمي الشرى بيعًا. والمعنى واحد"[2].



والبيع في الاصطلاح هو: "مبادلة المال بالمال، تمليكًا، وتملّكًا"[3]. وله تعريفات أخرى قريبة من هذا المعنى[4].



والوفاء في اللغة يدل على إكمال الشيء وإتمامه؛ ومن الوفاء: إتمام العهد وإكمال الشرط. ويقال: أوفيتك الشيء؛ إذا قضيته إياه وافيًا، وتوفيت الشيء واستوفيته، إذا أخذته كله حتى لم تترك منه شيئًا[5].



والوفاء في الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللغوي.

وبعد تعريف البيع والوفاء، يتم تعريف بيع الوفاء؛ وهو: "البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع"[6].



وبيع الوفاء مصطلح خاص بالمذهب الحنفي، وله عدة مسميات في المذاهب الفقهية فيسمى عند الحنفية أيضًا: "بيع الإطاعة أو الطاعة"[7]، و"بيع الأمانة"[8]، و"بيع الجائز"[9]، و"بيع المعاملة"[10]، و"الرهن المعاد"[11]، ويسمى في المذهب المالكي "بيع الثنيا"[12]، وعند الشافعية يسمى "بيع العهدة"[13]، والحنابلة يسمونه "بيع الأمانة"[14].



المطلب الثاني: حكم بيع الوفاء:

اختلف الفقهاء في حكم بيع الوفاء على قولين:

القول الأول: أن بيع الوفاء محرم.

وهو قول بعض الحنفية[15]، ومذهب المالكية[16]، والشافعية[17]، والحنابلة[18].



القول الثاني: أن بيع الوفاء جائز.

وهو المذهب عند الحنفية[19].



أدلة القول الأول:

الدليل الأول: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الثُّنْيَا، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا" رواه مسلم[20].



وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا، وهي أن يستثني البائع شيئًا مجهولًا من المبيع؛ لما فيه من الغرر[21]، وفي بيع الوفاء اشترط البائع رد المبيع متى ما رد الثمن على المشتري، والمدة التي يرد فيها الثمن مجهولة؛ فهي من الثنيا الممنوعة بنص الحديث[22].



الدليل الثاني: ما جاء عند أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ»[23].



وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين السلف والبيع، وقد أجمع الفقهاء على المنع من ذلك[24]، وبيع الوفاء يجمع بين السلف والبيع[25]؛ "لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف; إن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجئ كان بيعًا"[26].



نوقش: بأن المراد بالحديث أن السلف يتميز عن ثمن البيع، أما في بيع الوفاء فالثمن إما يكون للبيع أو يكون سلفًا؛ فهو غير متميز، فلا يدخل في معنى الحديث[27].



الدليل الثالث: عن عمرو بن العاصرضي الله عنه، أن النبيصلى الله عليه وسلم:«نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» رواه الطبراني[28].



وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اقتران الشرط بالبيع، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، وفي بيع الوفاء اقترن البيع بالشرط، فدل على فساده[29].

يناقش: بأن هذا الحديث ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به[30].



الدليل الرابع: أن في بيع الوفاء شرط رد السلعة متى ما رد البائع الثمن، وهو شرط ينافي مقتضى العقد، والشرط المنافي لمقتضى العقد باطل[31].



نوقش: بأن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فـ"إذا كان له غرض صحيح فإن الشرط صحيح"[32]، وإن كان يتنافى مع مقتضى العقد، وفي بيع الوفاء هناك مصلحة لأحد أطراف العقد؛ فلا ينبغي إهدارها[33].



يجاب: بأن الشرط إذا كان ينافي مقتضى العقد ومقصوده، أو يخالف الشرع فهو باطل[34]، ولا عبره بالمصلحة المتوهمة التي يحققها أحد الأطراف في مخالفة مقصود العقد، أو مخالفة الشرع، وفي بيع الوفاء منافاة لمقصود العقد، ومخالفة للشرع؛ فالمشتري لا يملك السلعة، ولا يتصرف فيها، وللبائع أن يفسخ البيع متى ما رد الثمن، وهذا ينافي مقصود العقد، فالعقد مقصوده الملك وحرية التصرف، ويخالف الشرع في أن المعاملة تؤول إلى الربا في الانتفاع بالسلعة مقابل القرض، وفي الجهل في وقت رد البيع، والجهالة نوع من الغرر، نهى الشارع عنه.



الدليل الخامس: أن حقيقة بيع الوفاء قرض جر نفعًا[35]، فهو حيلة للتوصل للربا[36]؛ قال ابن تيمية: "أما بيع الأمانة الذي مضمونه اتفاقهما على أن البائع إذا جاءه بالثمن أعاد عليه ملكه ذلك ينتفع به المشتري بالإجارة والسكن ونحو ذلك: هو بيع باطل باتفاق العلماء إذا كان الشرط مقترنـًا بالعقد. وإذا تنازعوا في الشرط المقدم على العقد: فالصحيح أنه باطل بكل حال، ومقصودهما إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل ومنفعة الدراهم هي الربح"[37].




أدلة القول الثاني:

الدليل الأول: أن عامة الناس بحاجة لبيع الوفاء، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة[38]، فهو كالاستصناع أبيح لحاجة الناس[39].



يناقش: بأن النهي عن بيع الوفاء؛ لأنه قرض جر نفعًا؛ فهو ربا، وأما الاستصناع فالنهي عنه لما فيه من الغرر، وفرق بين الربا والغرر؛ فالحاجة لا تنزل منزلة الضرورة في إباحة الربا، وتنزل منزلة الضرورة في إباحة الغرر بشروط، فالربا لا تبيحه إلا الضرورة، وقد سبق بيان ذلك[40].



الدليل الثاني: أن حقيقة بيع الوفاء عبارة عن رهن مقابل الدين، والرهن يجوز الانتفاع به بإذن مالكه، وقد أذن له في ذلك[41].



نوقش: بأن الرهن يختلف عن بيع الوفاء؛ فكل منهما عقد مستقل، له أحكامه المستقلة؛ فغاية الرهن توثيقية فقط، أما بيع الوفاء فغايته توثيق الدين وانتفاع الدائن بالعقار[42]، وهو باطل؛ لأنه شرط رهنًا ينتفع به زيادة على الدين فصار قرضا جر منفعة[43].



الدليل الثالث: أن الناس تعاملوا ببيع الوفاء، والقواعد تترك بالتعامل[44]، وجرى التعامل به في غالب بلاد المسلمين، وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره من يقول به من العلماء[45].



يناقش: بأنه لا يسلم بأن القواعد تترك لأجل التعامل، وتعامل الناس لا يبيح المحظور، وقد أنكر جمهور العلماء بيع الوفاء على مر العصور، ولم يبيحوه لجريان العادة به، بل ردوه لمخالفته للشرع؛ فالعادة محكمة ما لم تخالف الشرع[46]، وبيع الوفاء مخالف للشرع.



الدليل الرابع: أن بيع الوفاء جائز قياسًا على البيع بشرط الخيار المؤبد الذي أجازه الحنابلة[47].



يناقش من وجهين: الوجه الأول: أن البيع بشرط الخيار المؤبد مختلف فيه، ومن شروط القياس أن يكون الأصل متفقًا عليه[48].



الوجه الثاني: أن شرط الخيار المؤبد لا يصح على الصحيح من المذهب الحنبلي[49]، وكذلك لا يصح عند المذاهب الفقهية الأخرى[50]، بل نقل الإجماع على منعه[51]؛ لأنها مدة ملحقة بالعقد، فلا تجوز مع الجهالة؛ كالأجل؛ ولأن اشتراط الخيار أبدًا يقتضي المنع من التصرف على الأبد، وذلك ينافي مقتضى العقد، فلم يصح[52].



الترجيح: بعد عرض القولين، وأدلتهما، ومناقشة ما يحتاج منها إلى مناقشة، تبين لي-والله أعلم- أن القول الراجح هو القول الأول القائل إن بيع الوفاء محرم؛ لقوة أدلته مقابل ضعف أدلة القول الثاني أمام ما ورد عليها من المناقشة؛ ولأن حقيقة بيع الوفاء قرض جر نفعًا، والبيع صوري لا حقيقة له؛ ومما يدل على ذلك أن الباعث لهذه المعاملة ليس البيع، إنما هو حاجة الناس للقرض، ورفض أصحاب الأموال القرض إلا بمنفعة، فتعاملوا ببيع الوفاء ليحتالوا على نفع الدائن من طريق لا يعد ربًا في نظرهم[53]، "وهيهات لهم ذلك؛ لأن الحرام حرام من أي طريق وصلوا إليه"[54]، جاء في قرار مجلة مجمع الفقه الإسلامي بشأن بيع الوفاء: "إن حقيقة هذا البيع (قرض جر نفعًا) فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء"[55].

[1] انظر: لسان العرب 8/ 23، المصباح المنير، للفيومي 1/ 69.
[2] معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 1/ 327.
[3] المغني، لابن قدامة 3/ 480.
[4] انظر: المبسوط، للسرخسي 12/ 181، مواهب الجليل، للحطاب 4/ 222، المجموع، للنووي 9/ 149.
[5] انظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس6/ 129، مختار الصحاح، للرازي، ص343.
[6] مجلة الأحكام العدلية، ص30.
[7] انظر: حاشية ابن عابدين 2/ 333، 5/ 276.
[8] انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 184، البحر الرائق، لابن نجيم 6/ 8، حاشية ابن عابدين 2/ 333، 5/ 276.
[9] انظر: درر الحكام، لملا خسرو 2/ 207، البحر الرائق، لابن نجيم 7/ 190، حاشية ابن عابدين 5/ 276.
[10] انظر: المحيط البرهاني، لابن مازة 7/ 139، حاشية ابن عابدين 5/ 276، مجمع الضمانات، للبغدادي، ص242.
[11] انظر: البحر الرائق، لابن نجيم 6/ 8 .
[12] انظر: البيان والتحصيل، لابن رشد 7/ 336، مواهب الجليل، للحطاب 4/ 373، منح الجليل، لعليش 5/ 52.
[13] انظر: تحفة المحتاج، للهيتمي مع حاشية الشرواني 4/ 296.
[14] انظر: الإقناع، للحجاوي 2/ 58، حاشية الروض المربع، لابن قاسم 4/ 332.
[15] انظر: العناية شرح الهداية، للبابرتي 9/ 236، تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 184، الفتاوى الهندية 3/ 209.
[16] انظر: مواهب الجليل، للحطاب 4/ 373، الشرح الكبير، للدردير 3/ 71.
[17] انظر: تحفة المحتاج، للهيتمي مع حاشية الشرواني 4/ 296، بغية المسترشدين، للحضرمي، ص133.
[18] انظر: كشاف القناع، للبهوتي 3/ 149، مطالب أولي النهى، للرحيباني 3/ 4.
[19] انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 184، حاشية ابن عابدين 5/ 277.
[20] كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، وعن المخابرة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعن بيع المعاومة وهو بيع السنين، برقم 1536.
[21] انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي 10/ 195، تحفة الأحوذي، للمباركفوري 4/ 426.
[22] انظر: المنتقى شرح الموطأ، للباجي 4/ 210، قضايا الفقه والفكر المعاصر، لوهبة الزحيلي 1/ 225-226.
[23] رواه أبو داود، كتاب البيع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، برقم 3504، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده، برقم 1234، والنسائي، كتاب البيوع، باب شرطان في بيع، برقم 4630، 4631. والحديث ضعيف؛ فهو من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب فيه خلاف بين المحدثين؛ فقد ضعفه يحيى القطان، وابن معين في رواية، وأحمد، وأبو داود، وذكره البخاري في الضعفاء الصغير وذكر أن مما يعاب عليه أنه كان لا يسمع بشيء إلا حدث به، وقال عنه ابن معين:" ليس بذاك"، وقال أحمد:" له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا". ولعل تضعيف هؤلاء الأئمة له منصب على روايته عن أبيه عن جده؛ فأكثر مروياته هي عن أبيه عن جده، وسلسة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حصل خلاف بين الأئمة فيها، والراجح أنها ضعيفة؛ وممن نص على ضعفها أيضًا ابن معين، وابن المديني، وابن حبان، وابن عدي. انظر: تهذيب الكمال، للمزي 22/ 64، الضعفاء الصغير، للبخاري، ص84، ميزان الاعتدال، للذهبي 3/ 263، تهذيب التهذيب، لابن حجر 8/ 48.
[24] انظر: المنتقى شرح الموطأ، للباجي 5/ 29، مجموع الفتاوى، لابن تيمية 30/ 83، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، لمجموعة من المؤلفين 4/ 163.
[25] انظر: المنتقى شرح الموطأ، للباجي 4/ 210، مواهب الجليل، للحطاب 4/ 373، منح الجليل، لعليش 5/ 52.
[26] بداية المجتهد، لابن رشد 3/ 179.
[27] انظر: المنتقى شرح الموطأ، للباجي 4/ 210.
[28] المعجم الأوسط، للطبراني 4/ 325، برقم4361. والحديث ضعيف، ولم يخرجه أحد من أصحاب السنن والمسانيد، وقال ابن تيمية: "هذا حديث باطل ليس في شيء من كتب المسلمين وإنما يروى في حكاية منقطعة"، وقال ابن القيم: "لا يعلم له اسناد يصح" .انظر: البدر المنير، لابن الملقن 6/ 497، مجموع الفتاوى، لابن تيمية 18/ 63، إعلام الموقعين، لابن القيم 2/ 249.
[29] انظر: حاشية الشلبي على تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 184.
[30] انظر تخريج الحديث.
[31] انظر: حاشية الشلبي على تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 184، مواهب الجليل، للحطاب 4/ 373، تحفة المحتاج، للهيتمي 4/ 296.
[32] الممتع، لابن عثيمين 8/ 246.
[33] انظر: بيع الوفاء وآثاره بين الشريعة والقانون الكويتي، لخالد العتيبي، بحث منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الصادرة من جامعة الكويت، السنة26، العدد84، 1432ه، ص632.
[34] انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 29/ 156.
[35] انظر: المنتقى شرح الموطأ، للباجي 4/ 210، مجموع الفتاوى، لابن تيمية 29/ 334.
[36] انظر: حاشية ابن عابدين 4/ 523.
[37] مجموع الفتاوى، لابن تيمية 30/ 36.
[38] انظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص68، المدخل الفقهي العام، للزرقا 2/ 1006.
[39] انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 184.
[40] انظر بحث: الإشكال في قاعدة: الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، وقد نشر في موقع الألوكة.
[41] انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 183، درر الحكام، لملا خسرو 2/ 207، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص210.
[42] انظر: درر الحكام، لملا خسرو 2/ 207، قضايا الفقه والفكر المعاصر، لوهبة الزحيلي1/ 226.
[43] انظر: الحاوي الكبير، للماوردي 6/ 246.
[44] انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي 5/ 184.
[45] انظر: بغية المسترشدين، للحضرمي، ص133.
[46] انظر: شرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص219، القواعد الكلية، لشبير، ص245.
[47] انظر: استحداث العقود في الفقه الإسلامي، لقنديل السعدني، ص577.
[48] انظر: روضة الناظر، لابن قدامة 2/ 249، الإحكام، للآمدي 3/ 197.
[49] انظر: المغني، لابن قدامة 3/ 502، الإنصاف، للمرداوي 4/ 373.
[50] انظر: بدائع الصنائع، للكاساني 5/ 174، مختصر خليل، ص152، المجموع، للنووي 9/ 225.
[51] انظر: بدائع الصنائع، للكاساني 5/ 178، البناية شرح الهداية، للعيني 8/ 50، البحر الرائق، لابن نجيم 6/ 6.
[52] انظر: المغني، لابن قدامة 3/ 502.
[53] انظر: حاشية ابن عابدين 4/ 523، أحكام المعاملات المالية، لعلي الخفيف، ص432، نظرية الضرورة الشرعية، لوهبة الزحيلي، ص266.
[54] أحكام المعاملات المالية، لعلي الخفيف، ص432.
[55] انظر: قرار مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع، رقم 4/ 68.
____________
_____

روابط موقع الألوكة
الوفاء بالعهد
نماذج من الوفاء بالعهد
الوفاء بالعهد من القرآن والسنة
الوفاء بالعهد والميثاق
بيع الوفاء
التماس السعد في فضل الوفاء بالعهد (خطبة)
خطبة عن الوفاء بالعهد
الوفاء بالعهد

..............

وقفات حول آية: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين(مقالة - آفاق الشريعة)
آيتان من آيات الله: الخسوف والكسوف (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
تفسير: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة)(مقالة - آفاق الشريعة)
تفسير: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)(مقالة - آفاق الشريعة)
تفسير آية: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ...)(مقالة - آفاق الشريعة)
تفسير آية: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون)(مقالة - آفاق الشريعة)
تعليم الأطفال آيات الكتاب بالآيات المشهودة (النشور)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
الإعصار آية من آيات الجبار (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
النوم: آية من آيات الله(مقالة - موقع د. محمد السقا عيد)
الجهاز الهرموني ..آية من آيات الله(مقالة - موقع د. محمد السقا عيد)

رابط الموضوع
-----



.....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق